اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في حكم صوم السبت في غير فريضة إلى خمسة أقوال:
القول الأول: كراهة صوم السبت في غير الفريضة مفردًا. وهو قول جمهور العلماء
القول الثاني: جواز صيام يوم السبت مطلقًا
القول الثالث: كراهة صيام يوم السبت في غير فريضة مطلقََا
القول الرابع: استحباب صوم السبت
القول الخامس: تحريم صوم السبت في غير فريضة مطلقًا
هذه الأقوال الخمسة هي مجمل ما قيل في حكم صوم يوم السبت في غير الفرض، وقد رتبت الأقوال على حسب كثرة القائلين.
فالقول الأول: وهو الكراهة مع الإفراد والجواز إذا كان معه يوم آخر مثل الجمعة أو الأحد عليه أكثر أهل العلم. ثم يليه القول الثاني، ثم يليه القول الثالث، ثم يليه القول الرابع ثم الخامس، وهذا الأخير قليل من أخذ به.
ثانيًا: الأحاديث المختلف عليها بين أصحاب هذه الأقوال:
تنقسم هذه الأدلة إلى ثلاثة أقسام:
قسم يدل على الجواز المطلق، وقسم يدل على المنع المطلق، وقسم لا يمنع ولا يجيز
القسم الأول: الأحاديث التي وردت في إباحة صوم السبت:
أحاديث صريحة في ذكر السبت:
الحديث الأول: روى البخاري (1986) عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ: أَصُمْتِ أَمْسِ؟
قَالَتْ: لا
قَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟
قَالَتْ: لا
قَالَ: فَأَفْطِرِي.
2 ـ روى البخاري (1985) ومسلم (1144) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ).
--------------------------------------------------------------------------------
ومن المعروف أن بعد الجمعة هو السبت، فمنطوق الحديث يدل على إباحة صوم يوم السبت إذا كان مع الجمعة.
3 ـ روى أحمد في مسنده بإسناد ضعيف (26210) عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الأَحَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنْ الأَيَّامِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا عِيدَا الْمُشْرِكِينَ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ. (1)
__________
(1) والحديث أخرجه أيضًا ابن خزيمة في صحيحه (2167) وابن حبان (3646) والحاكم في مستدركه (1594) الطبراني في الأوسط (3857) من طريق عبد الله بن محمد بن عمر بن علي قال حدثنا أبي عن كريب به.
وقد تفرد به عبدالله عن أبيه وتفرد به أبيه عن كريب. فأما عبد الله ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 155) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء (1/ 354) وقال: قال بن المديني هو وسط وقال غيره صالح الحديث.
وقال عنه الحافظ في التقريب (3595) مقبول
أي عند المتابعة كما قرر ذلك في مقدمة التقريب، ولا متابعة هنا فهو غير مقبول، وتصحيح الحافظ له لعله سهو منه في ذلك لأنه مخالف لأصوله.=
= وأما محمد بن عمر بن علي فقد ذكره ابن حبان في الثقات ولم يذكره أحد من الأئمة بجرح ولا تعديل عدا ابن القطان قال عنه: مجهول، وأما الحافظ ابن حجر فقد قال عنه في التقريب: صدوق
وقال صاحب البيان والتعريف (2/ 154) بعد ذكر الحديث: قال الذهبي: منكر ورواته ثقات.
وقال عن الحديث ابن القيم في تهذيب السنن (7/ 53): ليس بحجة.
وقد ضعف الحديث شيخنا الألباني في السلسلة الضعيفة (3/ 219) بثلاث علل: جهالة حال محمد بن عمر، ولين ابنه عبدالله، ومخالفة الحديث لحديث (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) كما سيأتي إن شاء الله
--------------------------------------------------------------------------------
4 ـ روى الترمذي بإسناد ضعيف (746) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنْ الشَّهْرِ السَّبْتَ وَالأَحَدَ وَالاثْنَيْنِ وَمِنْ الشَّهْرِ الآخَرِ الثُّلاثَاءَ وَالأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ.
قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سُفْيَانَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ. (1)
__________
(1) الحديث تفرد به الترمذي قال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أحمد ومعاوية بن هشام قالا حدثنا سفيان عن منصور عن خيثمة عن عائشة به.
وأبو أحمد هو محمد بن عبدالله بن الزبير قال عنه أحمد: كثير الخطأ في حديث سفيان، وقد وثقه آخرون، وقال عنه الحافظ في التقريب: ثقة قد يخطئ في حديث الثوري. ومعاوية بن هشام صدوق له أوهام. وخيثمة هو ابن عبد الرحمن قال عنه الحافظ: ثقة يرسل.
هذا وقد خالف أبو أحمد ومعاوية بن هشام عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري في رفع الحديث وهو أوثق منهما وقد قال عنه الحافظ: ثقة ثبت عارف بالرجال والحديث. فالحديث ضعيف، وهو يخالف الحديث الذي قبله
--------------------------------------------------------------------------------
وهذان الحديثان يدلان على استحباب صوم يوم السبت والأحد، رغم أن كل منهما يخالف الآخر: ففي الحديث الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من صوم هذين اليومين، بينما في الحديث الآخر أنه لم يكن يصومهما غير مرة واحدة في الشهر. فأيهما يقدم على الآخر؟!!
وقد ثبت ضعف الحديثين سندًا ونكارتهما متنًا، وقد قال ابن القيم في تهذيب السنن (7/ 52):
وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم. أ ـ هـ
أحاديث فيها الإشارة إلى إباحة صوم السبت:
1 ـ روى مسلم (1164) عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ.
فإذا كانت متتابعة غير مفترقة لابد وأن يقع فيها يوم السبت.
2 ـ روى البخاري (1975) ومسلم (1159) ـ واللفظ له ـ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ: لأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلأَصُومَنَّ النَّهَارَ مَا عِشْتُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟
فَقُلْتُ لَهُ قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
--------------------------------------------------------------------------------
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ
قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ
قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ
قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي)
ومن صام صيام داود عليه السلام فلابد وأن يقع صوم السبت منفردًا
من غير كراهة.
3 ـ صيام ثلاثة أيام من كل شهر
وقد وردت أحاديث في الحث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر وأنها كصوم الدهر وهي على ثلاث أنواع:
--------------------------------------------------------------------------------
النوع الأول: أحاديث مطلقة غير محددة بأيام، وهى أصح الأحاديث في الباب
النوع الثاني: محددة بأول اثنين وخميس والخميس الذي يليه وهى صحيحة أيضًا
النوع الثالث: محددة بثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة من كل شهر، وهى لا تقوم بها الحجة وليس هذا موضع بسط (1)
4 ـ صيام أكثر من ثلاثة أيام في كل شهر
روى البخاري (6277) ومسلم (1159) عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي فَدَخَلَ عَلَيَّ فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَقَالَ لِي: أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ؟
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: خَمْسًا
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: سَبْعًا
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: تِسْعًا
__________
(1) وقد جمعنا الأحاديث في ذلك مع التحقيق يسر الله طبعها
--------------------------------------------------------------------------------
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: إِحْدَى عَشْرَةَ
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ شَطْرَ الدَّهْرِ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ.
وليس فيه تحديد إن كان مفرقًا أو متواصلاً.
5 ـ ما ورد في فضل صوم عرفة وعاشوراء وقد يأتي يوم سبت
روى مسلم (1162) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ.)
القسم الثالث: أحاديث المنع من صوم يوم السبت
1ـ روى أحمد في مسنده (172371) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ نُوحٍ حِمْصِيٌّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ يَقُولُ: تَرَوْنَ كَفِّي هَذِهِ فَأَشْهَدُ أَنِّي وَضَعْتُهَا عَلَى كَفِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ إِلا فِي فَرِيضَةٍ وَقَالَ: إِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلا لِحَاءَ شَجَرَةٍ فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ. (2)
__________
(1) وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، وعبيد الأعرج وهو مجهول
(2) وهذا إسناد عالٍ ورجاله ثقات
--------------------------------------------------------------------------------
2 ـ وروى أحمد (26535) حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ثَوْرٌ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلا مَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلا عُودَ عِنَبٍ أَوْ لِحَى شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهَا. (1)
3 ـ قال ابن ماجة (1726) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ: عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ: عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلا عُودَ عِنَبٍ أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ فَلْيَمُصَّهُ.
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ: عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ: عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. أ ـ هـ
وقد خالف سفيان بن حبيب وهو ثقة، عيسى بن يونس وهو ثقة مأمون؛ أي أعلى منه رتبة، فزاد عن عبد الله بن بسر عن أخته، فالقول قول عيسى بن ميمون برغم أن هذه الزيادة لا تضر.
والحديث من الطريقين صحيح.
4 ـ قال أبوداود (2423): حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذَكَرَ لَهُ
__________
(1) إسناده صحيح وبنفس الطريق أخرجه الدارمي (1749)
--------------------------------------------------------------------------------
أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ يَقُولُ ابْنُ شِهَابٍ: هَذَا حَدِيثٌ حِمْصِيٌّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ بْنِ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ: عَنْ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: مَا زِلْتُ لَهُ كَاتِمًا حَتَّى رَأَيْتُهُ انْتَشَرَ يَعْنِي حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ هَذَا فِي صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ مَالِكٌ: هَذَا كَذِبٌ. (1) أ ـ هـ
وذكر أبو داود في الحديث الذي قبله قوله: إنه حديث منسوخ.
وقد علله بعض أهل العلم بالاضطراب.
والحديث فيه نهي مطلق عن صيام يوم السبت واستثنى من ذلك صيام الفرض، فدل على أن النهي يختص بالنفل دون الفرض.
فمن قال بجواز صيام السبت من غير كراهة فالحديث لم يرده بطريق صحيح مثل مالك والزهري وغيرهما
أو ورده بطريق صحيح ولكن اعتقد نسخه لوجود الأحاديث الأخرى التي فيها جواز صيامه.
فمن ضعف الحديث لا حجة له وقد أوردناه بطرق صحيحة كالشمس وقد صححه كثير من العلماء والحفاظ.
__________
(1) والحديث أخرجه الدارمي (1729) وابن خزيمة (2164) وابن حبان
(3615) والترمذي (744) والنسائي في الكبرى (2764) والحاكم في المستدرك (1592) والطحاوي فيشرح معاني الآثار (2/ 80) وعبد بن حميد في مسنده
(508) وأبويعلى في مسنده (3411) والبيهقي في الكبرى (8276) وصححه ابن خزيمة وابن خبان والحاكم وابن حجر والألباني وحسنه الترمذي
--------------------------------------------------------------------------------
وأما دعوى النسخ فهي عارية من الدليل، بل إذا قلنا بالنسخ فيكون في أحاديث الجواز وذلك لسببين:
الأول: أن راوي حديث المنع وهو عبدالله بن بسر من آخر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم موتًا.
والثاني: وهو أن حديث المنع ناقل عن حكم الأصل وهو الإباحة فيصار إليه.
قال صاحب كتاب "التقرير والتحبير ":
في التخصيص أو يكون من قبل الزمان حكما كالمحرم؛ أي كتقديمه ... على المبيح إذا عارضه اعتبارا له ـ أي للمحرم ـ متأخرا عن المبيح؛ كي لا يتكرر النسخ على تقدير كون المحرم مقدما على المبيح بناء على أصالة الإباحة. فإن المحرم حينئذ يكون ناسخا للإباحة الأصلية ثم المبيح يكون ناسخا للمحرم بخلاف تقدير كون المحرم متأخرا مع القول بأصالة الإباحة، فإنه لا يتكرر النسخ؛ لأن المبيح وارد لإبقائها حينئذ والمحرم ناسخ له، والأصل عدم التكرار. ـ وتقدم ما في أصالة الإباحة في المسألة الثانية من مسألتي التنزل في فصل الحاكم من البحث والتحرير فليطلب ثمة ـ ولأنه؛ أي تقديم المحرم على المبيح الاحتياط؛ لأن فيه زيادة حكم هو نيل الثواب
--------------------------------------------------------------------------------
بالانتهاء عنه، واستحقاق العقاب بالإقدام عليه؛ وهو ينعدم في المبيح والأخذ بالاحتياط أصل في الشرع. أ ـ هـ (1)
ومن قال باستحبابه (2) أخذ بحديث ثبت ضعفه كما قدمنا فلا حجة في قوله.
ومن قال بكراهيته مطلقا صرف النهي في حديث " لا تصوموا يوم السبت .. " إلى الكراهة؛ لوجود أحاديث الإباحة.
ومن قال بالكراهة منفردًا والجواز مقرونًا بغيره قياسًا على الجمعة
ومن قال بالتحريم: قدم النهي على الإباحة كما سيأتي
ثالثًا: بعض أقوال أهل العلم في الأحاديث
نذكر من أقوال أهل العلم التي جمعت الأقوال الخمسة
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
حديث عبد الله بن بسر - هذا - رواه جماعة عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء، ورواه النسائي عن عبد الله
__________
(1) كتاب " التقرير والتحبير " (3/ 13) للعلامة محمد بن سليمان بن عمر المتوفى عام 879هـ
(2) قال ابن حبان في صحيحه (8/ 407) ذكر ما يستحب للمرء أن يصوم يوم السبت والأحد إذ هما عيدان لأهل الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أيضا عن الصماء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة أوجه.
وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديما وحديثا.
فقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفرد به؟
فقال: أما صيام يوم السبت يفرد به: فقد جاء فيه ذلك الحديث , حديث الصماء , يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم "
قال أبو عبد الله: يحيى بن سعيد ينفيه. أبي أن يحدثني به. وقد كان سمعه من ثور. قال: فسمعته من أبي عاصم. قال الأثرم: حجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت: أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر (1).
__________
(1) وهذا ليس جوابًا عن علة في الحديث يوجب رده؛ وإلا فنقول بصحة مذهب الأحناف في حديث الآحاد إذا كان فيما تعم به البلوى فلا يعمل به، أو إذا خالف الراوي مرويه أو لابد من أن يكون راويه فقيه؛ وكذلك المالكية في أن حديث الآحاد إذا خالف عمل أهل المدينة فلا يعمل به، ونحو ذلك من الأصول التي تهدر كثيرًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة وأن مثل هذا الكلام غير منضبط بضوابط الشرع فلا يلتفت إليه. والله أعلم
--------------------------------------------------------------------------------
منها: حديث أم سلمة , حين سئلت: " أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها؟ فقالت: السبت والأحد " ومنها حديث جويرية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: أتريدين أن تصومي غدا؟ " فالغد: هو يوم السبت. وحديث أبي هريرة " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة , إلا مقرونا بيوم قبله أو يوم بعده " فاليوم الذي بعده: هو يوم السبت. وقال: " من صام رمضان وأتبعه بست من شوال " وقد يكون فيها السبت. وأمر بصيام الأيام البيض , وقد يكون فيها السبت , ومثل هذا كثير. فقد فهم الأثرم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث , وأنه رخص في صومه , حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة.
وذكر أن الإمام علل حديث يحيى بن سعيد , وكان ينفيه , وأبى أن يحدث به , فهذا تضعيف للحديث.
واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت , يعني أن يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره.
وحديث النهي على صومه وحده وعلى هذا تتفق النصوص.
وهذه طريقة جيدة , لو لا أن قوله في الحديث " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم " دليل على المنع من صومه في غير
--------------------------------------------------------------------------------
الفرض مفردا أو مضافا , لأن الاستثناء دليل التناول , وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه , إلا صورة الفرض ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد , لقال: لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده , كما قال في الجمعة. فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها. وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها كقوله في يوم الجمعة " إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده " فدل على أن الحديث غير محفوظ وأنه شاذ. (1)
وقد قال أبو داود قال مالك: هذا كذب (2). وذكر بإسناده عن الزهري: أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت , يقول: هذا حديث حمصي.
وعن الأوزاعي قال: ما زلت كاتما له حتى رأيته انتشر , يعني حديث ابن بسر هذا.
وقالت طائفة , منهم أبو داود: هذا حديث منسوخ.
__________
(1) وهذه ليست بعلة حديثية توجب رد الحديث كما هو مقرر في علم المصطلح
(2) 2) والحق أن كل طرق الحديث التي وردت في كتب السنة لم يكن فيها كذاب ولا متهم بالكذب، فلعله ورد على الإمام مالك رحمه الله من طريق آخر فيه كذاب فأبى أن يحدث به واكتفى بهذا الحكم
--------------------------------------------------------------------------------
وقالت طائفة , وهم أكثر أصحاب أحمد: محكم , وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم , وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه.
قالوا: وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل , فإنه سئل في رواية الأثرم عنه: فأجاب بالحديث.
وقاعدة مذهبه: أنه إذا سئل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به , لأنه ذكره في معرض الجواب , فهو متضمن للجواب والاستدلال معا. قالوا: وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد. فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث. قالوا: وإسناده صحيح. ورواته غير مجروحين ولا متهمين , وذلك يوجب العمل به , وسائر الأحاديث ليس فيها ما يعارضه , لأنها تدل على صومه مضافا , فيحمل النهي على صومه مفردا , كما ثبت في يوم الجمعة.
ونظير هذا الحكم أيضا. كراهية إفراد رجب بالصوم , وعدم كراهيته موصولا بما قبله أو بعده.
ونظيره أيضا: ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان: أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول , فلا يكره.
--------------------------------------------------------------------------------
قالوا: وقد جاء هذا مصرحا به في صوم يوم السبت ففي مسند الإمام أحمد , من حديث ابن لهيعة: حدثنا موسى بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي , يعني الصماء " أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت , وهو يتغدى. فقال: تعالي تغدي. فقالت: إني صائمة. فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال كلي , فإن صيام يوم السبت لا لك , ولا عليك " وهذا - وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا انفرد , - لكن يدل عليه ما تقدم من الأحاديث.
وعلى هذا: فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم " لا تصوموا يوم السبت " أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض (1) , فإن الرجل يقصد صومه بعينه , بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت , فإنه يصومه وحده. وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره , بخلاف قصده بعينه في النفل , فإنه يكره. ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه , أو موافقته عادة.
فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا , لا المقارنة بينه وبين غيره. وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه , أو موافقته عادة , ونحو ذلك.
__________
(1) وهذا تعليل باطل كما سنبينه إن شاء الله
--------------------------------------------------------------------------------
قالوا: وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول - إلى آخره - فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي. فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم , فكلا الصورتين مخرج.
أما الفرض: فبالمخرج المتصل. وأما صومه مضافا: فبالمخرج المنفصل , فبقيت صورة الإفراد , واللفظ متناول لها , ولا مخرج لها من عمومه , فيتعين حمله عليها. قيل: قد كرهه كثير من العلماء , وأكثر أصحاب أحمد على الكراهة.
قال أحمد , في رواية ابنه عبد الله: حدثنا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس والحسن: أنهما كرها صوم يوم النيروز والمهرجان , قال عبد الله قال أبي: الرجل: أبان بن أبي عياش. فلما أجاب أحمد بهذا الجواب لمن سأله عن صيام هذين اليومين , دل ذلك على أنه اختاره. وهذه إحدى الطريقتين لأصحابه في مثل ذلك. وقيل: لا يكون هذا اختيارا له , ولا ينسب إليه القول الذي حكاه , وأكثر الأصحاب على الكراهة , وعللوا ذلك بأنهما يومان يعظمهما الكفار , فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما , فكره كيوم السبت.
قال صاحب المغني: وعلى قياس هذا: كل عيد للكفار , أو يوم يفردونه بالتعظيم.
--------------------------------------------------------------------------------
قال شيخنا أبو العباس بن تيمية , قدس الله روحه (1): وقد يقال: يكره صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام التي لا تعرف بحساب العرب , بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد , لأنه إذا قصد صوم مثل هذا الأيام العجمية أو الجاهلية , كان ذريعة إلى إقامة شعار هذه الأيام وإحياء أمرها , وإظهار حالها بخلاف السبت والأحد , فإنهما من حساب المسلمين , فليس في صومهما مفسدة فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي , مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي , توفيقا بين الآثار والله أعلم. (2)
وقال العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي:
قال الطيبي: قالوا النهي عن الإفراد كما في الجمعة , والمقصود مخالفة اليهود فيهما , والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور. وما افترض يتناول المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم الكفارة , وفي معناه ما وافق سنة مؤكدة كعرفة وعاشوراء أو وافق وردا. وزاد ابن الملك: وعشر ذي الحجة أو في خير الصيام صيام داود
__________
(1) وهذه من المآخذ على ابن القيم رحمه الله فإن التقديس هو التنزيه وهذا مختص بالله سبحانه وتعالى فلعله من بقايا الصوفية قد علقت به فإن السلف لم يتكلموا بذلك
(2) حاشية ابن القيم على تهذيب السنن (7/ 49 ـ 51)
--------------------------------------------------------------------------------
فإن المنهي عنه شدة الاهتمام والعناية به حتى كأنه يراه واجبا كما تفعله اليهود.
قلت: فعلى هذا يكون النهي للتحريم , وأما على غير هذا الوجه فهو للتنزيه بمجرد المشابهة.
قال الطيبي: واتفق الجمهور على أن هذا النهي والنهي عن إفراد الجمعة نهي تنزيه لا تحريم (فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب): هكذا في بعض النسخ وفي بعضها عنبة قال في القاموس: العنب معلوم واحدته عنبة. انتهى
واللحاء ـ بكسر اللام ـ قال التوربشتي: اللحاء ممدود وهو قشر الشجر , والعنبة هي الحبة من العنب.
وفي المرقاة: قشر حبة واحدة من العنب استعارة من قشر العود (أو عود شجرة): عطفا على اللحاء (فليمضغه): بفتح الضاد ويضم في القاموس: مضغه كمنعه ونصره لاكه بأسنانه , وهذا تأكيد بالإفطار لنفي الصوم. قاله علي القاري.
قال المنذري: قال أبو داود: هذا الحديث منسوخ , وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن هذا آخر كلامه، وقيل إن الصماء أخت بسر.
وروى هذا الحديث من حديث عبد الله بن بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حديث أبيه بسر عن رسول الله صلى الله عليه
--------------------------------------------------------------------------------
وسلم من حديث الصماء عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال النسائي: هذه أحاديث مضطربة انتهى كلام المنذري.
والحديث أخرجه أحمد والدارمي وصححه الحاكم على شرط البخاري وقال النووي: صححه الأئمة (قال أبو داود: هذا الحديث منسوخ): ذهب إلى نسخه المؤلف.
وقد طعن في هذا الحديث جماعة من الأئمة مالك بن أنس وابن شهاب الزهري والأوزاعي والنسائي , فلا تغتر بتحسين الترمذي وتصحيح الحاكم , وإن ثبت تحسينه فلا يعارض حديث جويرية بنت الحارث الذي اتفق عليه الشيخان.
ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة , فعللها ابن عقيل: بأنه يوم يمسك فيه اليهود , ويخصونه بالإمساك , وهو ترك العمل فيه , والصائم في مظنة ترك العمل , فيصير صومه تشبها بهم , وهذه العلة منتفية في الأحد. ولا يقال: فهذه العلة موجودة إذا صامه مع غيره , ومع هذا فإنه لا يكره , لأنه إذا صامه مع غيره لم يكن قاصدا تخصيصه المقتضي للتشبه , وشاهده: استحباب صوم يوم قبل عاشوراء وبعده إليه , لتنتفي صورة الموافقة.
وعلله طائفة أخرى: بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه , فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له , فكره ذلك , كما كره إفراد يوم
--------------------------------------------------------------------------------
عاشوراء بالتعظيم , لما عظمه أهل الكتاب , وإفراد رجب أيضا لما عظمه المشركون.
وهذا التعليل قد تعارض بيوم الأحد , فإنه يوم عيد للنصارى , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اليوم لنا , وغدا لليهود , وبعد للنصارى " ومع ذلك فلا يكره صومه. وأيضا فإذا كان يوم عيد , فقد يقال: مخالفتهم فيه يكون بالصوم لا بالفطر , فالصوم فيه تحقيق للمخالفة , ويدل على ذلك: ما رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كريب مولى ابن عباس قال " أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسالها: أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما؟ فقالت: كان يصوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين , فأنا أحب أن أخالفهم " وصححه بعض الحفاظ (1).
فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم , فكيف نعلل كراهة صومه بكونه عيدا لهم! وفي جامع الترمذي عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت , والأحد والاثنين. ومن الشهر الآخر الثلاثاء , والأربعاء , والخميس " قال الترمذي: حديث حسن. وقد روى ابن مهدي هذا
__________
(1) وقد ثبت ضعفه فلا عبرة بالترجيح به
--------------------------------------------------------------------------------
الحديث عن سفيان , ولم يرفعه. وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم.
وعلله طائفة: بأنهم يتركون العمل فيه , والصوم مظنة ذلك , فإنه إذا ضم إليه الأحد زال الإفراد المكروه , وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم , وزال عنها صورة التعظيم المكروه بعدم التخصيص المؤذن بالتعظيم , فاتفقت بحمد الله الأحاديث وزال عنها الاضطراب والاختلاف , وتبين تصديق بعضها بعضا. أ ـ هـ (1)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله:
اختلف العلماء في هذا الحديث، فقواه من ذكر المؤلف، وقال مالك:
هذا كذب.
وضعفه الإمام أحمد كما في " تهذيب السنن "
وقال النسائي: "وهو حديث مضطرب "
وبه أعله الحافظ في " بلوغ المرام " فقال: ورجاله ثقات إلا أنه مضطرب، وقد أنكره مالك.
وقد بين الاضطراب فيه الحافظ في " التلخيص " (6/ 472)، فليراجعه من شاء.
ثم تبين لي أن الحديث صحيح، وأن الاضطراب المشار إليه هو من النوع الذي لا يؤثر في صحة الحديث؛ لأن بعض طرقه سالم منه،
__________
(1) عون المعبود شرح سنن أبي داود (7/ 48 ـ 51)
--------------------------------------------------------------------------------
وقد بينت ذلك في "إرواء الغليل " (960) بينا لا يدع مجالا للشك في صحته.
وتأويل الحديث بالنهي عن صوم السبت مفردًا يأباه قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا فيما افترض عليكم)، فإنه كما قال ابن القيم في "تهذيب السنن":
دليل على المنع من صومه في غير الفرد مفردا أو مضافا , لأن الاستثناء دليل التناول , وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه , إلا صورة الفرض ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد , لقال: لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده , كما قال في الجمعة. فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها."
قلت: وأيضًا لو كانت صورة الاقتران غير منهي عنها؛ لكان استثناؤها في الحديث أولى من استثناء الفرض؛ لأن شبهة شمول الحديث له أبعد من شموله لصورة الاقتران، فإذا استثنى الفرض وحده دل على عدم استثناء غيره كما لا يخفى.
وإذ الأمر كذلك، فالحديث مخالف للأحاديث المبيحة لصيام يوم السبت، كحديث ابن عمرو الذي قبله، ونحوه مما ذكره ابن القيم تحت هذا الحديث في بحث له قيم، أفاض فيه في ذكر أقوال العلماء
--------------------------------------------------------------------------------
فيه، وانتهى فيه إلى حمل النهي على إفراد يوم السبت بالصوم، جمعًا بينه وبين تلك الأحاديث، وهو الذي ملت إليه في "الإرواء".